سورة النحل - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


{لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)} [النّحل: 16/ 60- 62].
تصف هذه الآيات مواقف المشركين في الجملة، فهم بعدم تصديقهم بالآخرة وما فيها من حساب وعقاب وجنة ونار، لهم مثل السوء، والصفة التي لا أسوأ منها في القبح، فضلا عن نسبتهم البنات لله تعالى، وكراهة الإناث ووأدهن خشية الفقر أو الإملاق، والإقرار على أنفسهم بالشح البالغ. ولله تعالى الصفة العليا والكمال المطلق، فهو الإله الواحد المنزه عن الولد والوالد والشريك، وهو الغني عن العالمين، والمنزه عن صفات المخلوقين، وهو الجواد الكريم، والبرّ الرؤوف الرحيم، وهو سبحانه العزيز، أي القوي الذي لا يغلب، الحكيم في صنعه الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة السديدة، ووضع الأمور فيما يناسبها.
واقتضت رحمته تعالى أن يمهل الكفار، ولا يعاجلهم بالعقاب، ويحلم على سوء تصرفاتهم وظلمهم، فلو أنه يؤاخذهم بذنوبهم ومعاصيهم ويعاقبهم على جرمهم على الفور، ما ترك على ظهر الأرض من دابة، وأهلك جميع دواب الأرض، تبعا لإهلاك بني آدم، ولكنه جل جلاله ستّار غفور رحيم، يؤخرهم إلى أجل مسمى، فلا يعجل لهم العقوبة، لأنه لو فعل ذلك بهم، لما أبقى أحدا.
روى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال: بلى والله، حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم.
فإذا حان أجل العقاب والهلاك والعذاب، وذلك بحسب مقتضى الحكمة، فلا يستأخرون ساعة، ولا يتقدمون قبله، حتى يستوفوا أعمارهم.
روى ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكرنا عند رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: «إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة، يرزقها الله العبد، فيدعون له من بعده، فيلحقه دعاؤهم في قبره، فذلك زيادة العمر».
ثم يؤكد الله تعالى سوء فعل المشركين حين ينسبون إلى الله ما يكرهون لأنفسهم من البنات ومن الشركاء الذين هم عبيد الله، وهم يأنفون أن يكون لأحدهم شريك في ماله. ويكذبون في دعواهم أن لهم العاقبة الحسنة في الدنيا، وفي الآخرة، وهي الجنة على هذا العمل. روي أنهم قالوا: إن كان محمد صادقا في البعث، فلنا الجنة بما نحن عليه، فردّ الله عليهم مقالهم بقوله: {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} أي حقّا أن لهم النار التي تحرقهم، وأنهم متروكون فيها، أو معجل بها إليهم، وهم في العذاب باقون.
ومعنى الآية بإيجاز: يجعلون لله المكروه، ويدّعون مع ذلك أنهم يدخلون الجنة، كما تقول لرجل: أنت تعصي الله، وتقول- مع ذلك-: إنك تنجو، أي إن ذلك لبعيد مع هذا.
إن مثل هذا التفكير هو شأن المغرورين الحمقى الذين نجدهم في كل زمان ومكان، إنهم مقصرون في طاعة الله تعالى، متجاوزون للحد في معاصي الله، ثم يتأملون أنهم في الجنان، وأنهم ناجون غير محاسبين، وهذه صفة الأبله والأحمق الذي لا يدرك ما يقول.
وعيد المكذبين للرسل:
لم يهمل الله أمة من الأمم في بيان طريق إسعادها واستقامتها، فأرسل لهم الأنبياء والرسل مبشرين ومنذرين، ومرشدين إلى الحق والطريق الأقوم، ولكن الأمم في الغالب كذبوا الرسل وعادوا منهج الإصلاح، وصبر الأنبياء في تبيان مهامهم وإيضاح وحي ربهم وكتبه، وردّ الشبهات التي يوردونها، ومجادلتهم بالحسنى وإقناعهم بالكلمة الطيبة، ولم يختلف منهج رسولنا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم عن هذه الخطة، وكان له أسوة بمن سبقه، قال الله تعالى مبينا موقف الأمم من الرسل وتبليغ الرسل وحي الله تعالى:


{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)} [النّحل: 16/ 63- 64].
هذه الآية لضرب المثل بالأمم الماضية، تتضمن الوعيد والتهديد لهم ولمن سار على منوالهم، وهي أيضا تأنيس للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعقد المقارنة أو الموازنة بين موقف قومه ومواقف الأمم السابقة، فلا داعي لإيقاع نفسه في دائرة الهموم والأحزان بسبب صدود قومه عن رسالته، وجهالتهم وعنادهم.
والمعنى: والله، لقد أرسلنا رسلا إلى الأمم الخالية من قبلك، فكذبت الأمم رسلها، وحسّن لهم الشيطان أعمالهم من الكفر وعبادة الأوثان، فيكون الشيطان ولي الكفرة المشركين في اليوم المشهود، وهو يوم القيامة وقت الحاجة والفصل، أي إنه قرينهم في النار في هذا اليوم، ويكون للشيطان وأتباعه عذاب مؤلم شديد بسبب اشتراكهم في عصيان الله. والسبب في ذلك: أن أعداء الرسل والهداية الربانية في الأمم السابقة اتخذوا الشيطان ناصرا لهم في الدنيا، بحسب زعمهم، وحسبوا أن الشيطان ينقذهم من العذاب وهو في الواقع يغرهم ويخدعهم ويسوقهم إلى العذاب، فلا تنفعهم ولايته ونصرته.
والعبرة من حكاية هذا الواقع للأمم الماضية تأنيس النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يحزن على تكذيب قومه له، فله أسوة بالمرسلين من قبله، وعليه أن يترك المشركين الذين كذبوا الرسل في غيّهم وضلالهم، فإنما وقعوا فريسة لتزيين الشيطان لهم ما فعلوه.
ولكن العدل الإلهي والرحمة الربانية اقتضيا ألا يكون هلاك وعقاب في الدنيا إلا بعد بيان الحجة وإقامة البرهان على الاعتقاد الحق والإيمان الصحيح، فقال الله سبحانه: { وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي: إنما أنزلنا عليك القرآن لهدف واضح، وهو أن تبين للناس الذي يختلفون فيه في العقائد والعبادات، فيعرفوا الحق من الباطل، والقرآن العظيم هو كلمة الفصل، والقرار الحاسم بين الناس فيما يتنازعون فيه، وهو هدى للقلوب الحائرة، والرحمة الشاملة لقوم يصدقون به، ويتمسكون بتعاليمه وشرائعه، ويلتزمون منهجه في الحياة والآداب والأخلاق، ولا يحيدون عن توجيهاته، والعمل في فلكه ومقاصده وغاياته، كما قال الله تعالى في آية أخرى: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِين يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10)} [الإسراء: 17/ 9- 10].
إن مجيء الرسل وإكمال مهمتهم برسولنا وما أنزل الله معهم من الكتاب والحكمة، والشريعة والمنهج، كان الكلمة الفاصلة، والقرار الحاسم في قسمة الناس إلى فريقين: الفريق الأول الذين كذبوا الرسل، لتأثرهم بوساوس الشياطين وإغواءاتهم، وهؤلاء خسروا الدنيا والآخرة.
والفريق الثاني الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، وأحسنوا العمل، واستقاموا على أمر الله ومنهاجه، وهؤلاء هم أهل السعادة والطمأنينة، في الدنيا براحة النفس، وفي الآخرة بالخلود الأبدي في جنات النعيم. جعلنا الله من هذا الفريق، وهدى الذين أعرضوا عن هداية الله إلى ما فيه خيرهم ونجاتهم. وهذا يدل على أن الأنبياء جميعا يدعون إلى ناحية الخير والروح في الإنسان، والشيطان دائما يعاند ويستغل ناحية المادة في الإنسان.
ألوان النعم الإلهية:
في سورة النحل سورة النّعم عدّد الله تعالى ألوانا من النّعم العظيمة من أجل خير الإنسان وانتفاعه بثمرات الكون، وتضمن هذا التعداد الإرشاد لبيان مظاهر قدرة الله سبحانه، وإثبات وجوده وتوحيده، لأن خلق النّعم وسائر الأفعال الصادرة عن الإنسان إنما هي من الله تعالى، لا من الأصنام وطواغيت الأوثان والمعبودات من دون الله، فهي مخلوقة لا خالقة، وعاجزة غير قادرة على شيء من الإبداع والخلق، قال الله تعالى مبينا هذه البراهين على ألوهيته:


{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)} [النّحل: 16/ 65- 69].
هذه طائفة جليلة من النعم الإلهية لإثبات أمر الربوبية:
وأولها نعمة المطر التي هي أبين العبر، وهي ملاك الحياة، وفي غاية الظهور، لا يخالف فيها عاقل، فالله سبحانه أنزل المطر من السماء، ليكون سببا لحياة الأرض بإنبات الزرع والشجر والثمر، بعد أن كانت الأرض هامدة غبراء غير منبتة، فهي كالميت، فتصبح كالحي بالمطر منبتة مخضرة مهتزة رابية، وهذا واضح ظاهر، لذا ختمت الآية بقوله سبحانه: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي إن الأمر لا يحتاج إلى تفكر، ولا نظر قلب، أو تأمل، وإنما يحتاج الإنسان المنبّه إلى أن يسمع القول فقط.
والنعمة الثانية: هي خلق الأنعام، وهي أصناف أربعة: الإبل والبقر والضأن والمعز، ففيها عبرة وعظة دالة على قدرة الله تعالى، ورحمته، ولطفه بعباده، حيث سخر للبشر هذه الأنعام، يستقون من ألبانها الخالصة من الشوائب، والسائغة الشرب في الحلق، دون غصص، وهي غذاء كامل، لذيذ الطعم، سهل الهضم، خلقها الله، أي الألبان مميزة، غير مختلطة بما جاورها من فرث (زبل يملأ الكرش والأمعاء) ودم محيط بها. كما أن في الأنعام فوائد أخرى كثيرة حيث يستفاد من أوبارها وأصوافها، ويتخذ بعضها وسائط للركوب والحرث (شق الأرض) ويؤكل لحمها بعد الذبح.
والنعمة الثالثة: هي ثمرات النخيل (التمور) والأعناب التي تؤكل طازجة، ويتخذ منها الدبس والخل، والنبيذ (الخشاف). أما المسكر منه فحرام، فيما استقر عليه التشريع القرآني، في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 5/ 90].
فقوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} أصبح منسوخا بآية المائدة المذكورة، وصار جميع ما يسكر حراما، قليله وكثيره، ويحد شاربه، وختمت الآية بما يدعو للتأمل والتفكر وهو قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي إن في تلك الأشربة والمآكل لآية واضحة على عظمة الإله الخالق، لقوم يستخدمون عقولهم في النظر والتأمل في الآيات، حيث يحتاج الإنسان إلى وعي وإدراك لعظمة فعل الله، من تحويل الأكل المهضوم إلى لبن سائغ الشراب، وإلى ظهور ثمرة النخيل والعنب من التراب والماء؟!! والنعمة الرابعة: هي نعمة غذاء العسل وشرابه، فالله سبحانه ألهم النحل وركّز في غريزتها وطبعها كيفية بناء الخلايا العجيبة، ذات الأشكال السداسية الهندسية البديعة والمتناسقة، في كهوف الجبال، وأحضان الشجر، وعرائش البيوت والكروم، ثم قيامها بامتصاص رحيق الأزهار والثمار العديدة التي تتجاوز مليون زهرة لصنع كيلو عسل مثلا، وبعد قيامها بهذه العملية تسلك الطريق التي ألهمها الله في صنع العسل، وطلب الثمار المناسبة، والعودة بسلام في طرق تختارها ولا تخطئها لتصل إلى الخلايا، وهي تسير ذللا، أي مطيعة منقادة لما يسّرت له. والعسل شراب مختلف الألوان، فمنه الأبيض والأحمر والزهر والأصفر، وفيه شفاء للناس من كثير من الأمراض، إن في ذلك الصنيع لدلالة واضحة على قدرة الله وعجيب خلقه لقوم يتأملون ويتفكرون في صنع الخالق.
أحوال الناس الدالة على قدرة الله:
أقام الحق سبحانه وتعالى أدلة كثيرة على وجوده وقدرته ووحدانيته، منها نعمة المطر، وتسخير الحيوان، وإيجاد الزروع والثمار، وخلق النحل لصنع العسل، كما تقدم، ومنها عجائب أحوال الناس من الإيجاد بعد العدم، والشيخوخة والهرم، والإماتة بعد الإحياء، والبعث بعد الموت، والتفاضل في الأرزاق، وشح الناس في إخراج الزكاة للفقراء والمحتاجين، وخلق الزوجات من جنس الأزواج، وإنجاب الذرية والأولاد والأحفاد، ورزق الطيبات، وجحود نعم الله والإيمان بالباطل. قال الله تعالى واصفا هذه العجائب من أحوال الناس:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8